تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 257 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 257

257 : تفسير الصفحة رقم 257 من القرآن الكريم

** قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكّ فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَـمّـى قَالُوَاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدّونَا عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نّحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَمُنّ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَآ أَلاّ نَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ
يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة, وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له, قالت الرسل: {أفي الله شك} وهذا يحتمل شيئين (أحدهما) أفي وجوده شك, فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به, فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة, ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب, فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده, ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه {فاطر السموات والأرض} الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق, فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما, فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا الله هو خالق كل شيء وإلاهه ومليكه¹ (والمعنى الثاني) في قولهم: {أفي الله شك} أي أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك, وهو الخالق لجميع الموجودات, ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له, فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع, ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى, وقالت لهم رسلهم: {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} أي في الدار الاَخرة {ويؤخركم إلى أجل مسمى} أي في الدنيا كما قال تعالى: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} الاَية, فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة بعد تقدير تسليمهم المقام الأول, وحاصل ما قالوه {إن أنتم إِلا بشر مثلن} أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولما نر منكم معجزة, {فأتونا بسلطان مبين} أي خارق نقترحه عليكم {قالت لهم رسلهم إِن نحن إِلا بشر مثلكم} أي صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية {ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده} أي بالرسالة والنبوة {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان} على وفق ما سألتم {إِلا بإِذن الله} أي بعد سؤالنا إِياه وإِذنه لنا في ذلك {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي في جميع أمورهم, ثم قالت الرسل: {وما لنا أن لا نتوكل على الله} أي وما يمنعنا من التوكل عليه, وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها {ولنصبرن على ما آذيتمون} أي من الكلام السيء والأفعال السخيفة {وعلى الله فليتوكل المتوكلون}.

** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّـكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنّـكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ * مّن وَرَآئِهِ جَهَنّمُ وَيُسْقَىَ مِن مّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم, كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتن} الاَية. وكما قال قوم لوط: {أخرجوا آل لوط من قريتكم} الاَية, وقال تعالى إِخباراً عن مشركي قريش: {وإِن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإِذاً لا يلبثون خلافك إِلا قليل}. وقال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره, وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصاراً وأعواناً وجنداً يقاتلون في سبيل الله تعالى, ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته, ومكن له فيها, وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً, وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان, ولهذا قال تعالى: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم} وكما قال: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إِنهم لهم المنصورون وإِن جندنا لهم الغالبون}, وقال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إِن الله قوي عزيز}, وقال تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} الاَية, {وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}, وقال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} وقوله: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} أي وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي كما قال تعالى: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى} وقال {ولمن خاف مقام ربه جنتان}.
وقوله: {واستفتحو} أي استنصرت الرسل ربها على قومها, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} ويحتمل أن يكون هذا مراداً وهذا مراداً, كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر واستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنصر, وقال الله تعالى للمشركين: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم} الاَية, والله أعلم, {وخاب كل جبار عنيد} أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق, كقوله تعالى: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد, مناع للخير معتد مريب, الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد} وفي الحديث «إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة, فتنادي الخلائق, فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد» الحديث أي خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.
وقوله: {ومن ورائه جهنم} وراء هنا بمعنى أمام, كقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصب} وكان ابن عباس يقرؤها: وكان أمامهم ملك, أي من وراء الجبار العنيد جهنم, أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلداً يوم المعاد, ويعرض عليها غدواً وعشياً إلى يوم التناد {ويسقى من ماء صديد} أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق, فهذا حار في غاية الحرارة, وهذا بارد في غاية البرد والنتن, كما قال: {هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج} وقال مجاهد وعكرمة: الصديد من القيح والدم. وقال قتادة: هو ما يسيل من لحمه وجلده, وفي رواية عنه: الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم. وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قلت يا رسول الله ما طينة الخبال ؟ قال «صديد أهل النار». وفي رواية «عصارة أهل النار».
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا عبد الله, أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر, عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه} قال: «يقرب إليه فيكرهه, فإذا أدني منه شوىَ وجهه, ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يقول الله تعالى: {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} ويقول: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} الاَية, وهكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن المبارك به. ورواه هو وابن أبي حاتم من حديث بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به.
وقوله: {يتجرعه} أي يتغصصه ويتكرهه, أي يشربه قهراً وقسراً لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد, كما قال تعالى: {ولهم مقامع من حديد} {ولا يكاد يسيغه} أي يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع {ويأتيه الموت من كل مكان} أي يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه. قال عمرو بن ميمون بن مهران: من كل عظم وعصب وعرق. وقال عكرمة: حتى من أطراف شعره, وقال إبراهيم التيمي: من موضع كل شعرة, أي من جسده حتى من أطراف شعره. وقال ابن جرير: {ويأتيه الموت من كل مكان} أي من أمامه وخلفه, وفي رواية: وعن يمينه وشماله, ومن فوقه ومن تحت أرجله, ومن سائر أعضاء جسده.
وقال الضحاك عن ابن عباس {ويأتيه الموت من كل مكان} قال: أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم, ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت, ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابه} ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت, ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال, ولهذا قال تعالى: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت}.
وقوله: {ومن ورائه عذاب غليظ} أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ, أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله, وأدهى وأمر, وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لاَكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم * ثم إن مرجعهم لاإلى الجحيم} فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم, وتارة في شرب حميم, وتارة يردون إلى جحيم, عياذاً بالله من ذلك, وهكذا قال تعالى: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن}, وقال تعالى: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم, كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم, خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم, ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم, ذق إنك أنت العزيز الكريم, إن هذا ما كنتم به تمترون}, وقال: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم}, وقال تعالى: {هذا وإن للطاغين لشر مآب, جهنم يصلونها فبئس المهاد, هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على تنوع العذاب عليهم, وتكراره وأنواعه, وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عز وجل جزاءً وفاقاً {وما ربك بظلام للعبيد}.

** مّثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدّتْ بِهِ الرّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاّ يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُواْ عَلَىَ شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضّلاَلُ الْبَعِيدُ
هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه غيره, وكذبوا رسله, وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح, فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها, فقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم} أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى, لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء فلم يجدو شيئاً, ولا ألفوا حاصلاً إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة {في يوم عاصف} أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية, فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم, كقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثور}, وقوله تعالى: {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله. ولكن أنفسهم يظلمون}, وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاَخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين}, وقوله في هذه الاَية {ذلك هو الضلال البعيد} أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة, حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه {ذلك هو الضلال البعيد}.